فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

وقوله تعالى: {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض} الآية المتقدمة تقضي بهداية إبراهيم عليه السلام والإشارة هنا بذلك هي إلى تلك الهداية أي وكما هديناه إلى الدعاء إلى الله وإنكار الكفر أريناه ملكوت، و{نُري} لفظها الاستقبال ومعناها المضي، وحكى المهدوي: أن المعنى وكما هديناك يا محمد فكذلك نري إبراهيم.
قال القاضي أبو محمد: وهذا بعيد إذ اللفظ لا يعطيه، و{نُرِي} هنا متعدية إلى مفعولين لا غير فهي إما من رؤية البصر وإما من أرى التي هي بمعنى عرف ولو كانت من أرى بمعنى أعلم وجعلنا أعلم منقولة من علم التي تتعدى إلى مفعولين لوجب أن تتعدى أرى إلى ثلاثة مفاعيل، وليس كذلك ولا يصح أن يقال: إن الثالث محذوف لأنه لا يجوز حذفه إذ هو الخبر في الجملة التي يدخل عليها علمت في هذا الموضع، وإنما هي من علم بمعنى عرف، ثم نقلت بالهمزة فتعدت إلى مفعولين ثم جعلت أرى بمنزلتها في هذه الحال، وهذه الرؤية قيل رؤية البصر، وروي في ذلك أن الله عز وجل فرج لإبراهيم السماوات والأرضين حتى رأى ببصره الملكوت الأعلى والملكوت الأسفل فإن صح هذا المنقول ففيه تخصيص لإبراهيم عليه السلام بما لم يدركه غيره، قبله ولا بعده، وهذا هو قول مجاهد قال: تفرجت له السماوات والأرضون فرأى مكانه في الجنة وبه قال سعيد بن جبير وسلمان الفارسي، وقيل: هي رؤية بصر في ظاهر الملكوت وقع له معها من الاعتبار ورؤية القلب ما لم يقع لأحد من أهل زمنه الذين بعث إليهم، قاله ابن عباس وغيره، ففي هذا تخصيص ما على جهة التقييد بأهل زمنه، وقيل هي رؤية قلب رأى بها ملكوت السماوات والأرض بفكرته ونظره، وذلك ولابد متركب على ما تقدم من رؤيته ببصره وإدراكه في الجملة بحواسه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا القولان الأخيران يناسبان الآية، لأن الغاية التي نصبت له إنما هي أن يؤمن ويكون من جملة موقنين كثرة، والإشارة لا محالة إلى من قبله من الأنبياء والمؤمنين وبعده واليقين يقع له ولغيره وبالرؤية في ظاهر الملكوت والاستدلال به على الصانع والخالق لا إله إلا هو، و{ملكوت} بناء مبالغة كجبروت ورهبوت ورحموت، وقال عكرمة هو ملكوتي باليونانية أو بالنبطية، وقرأ {ملكوث} بالثاء مثلثة وقرأ أبو السمال {مَلْكوت} بإسكان اللام وهي لغة، و{ملكوت} بمعنى الملك، والعرب تقول لفلان ملكوت اليمن أي ملكه، واللام في {ليكون} متعلقة بفعل مؤخر تقديره وليكون من المؤقنين أريناه، والموقن: العالم بالشيء علمًا لا يمكن أن يطرأ له فيك شك، وقال الضحاك ومجاهد أيضًا إن الإشارة هاهنا {بملكوت السماوات} هي إلى الكواكب والقمر والشمس، وهذا راجع وداخل فيما قدمناه من أنها رؤية بصر في ظاهر الملكوت. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض} أي مُلك، وزيدت الواو والتاء للمبالغة في الصفة.
ومثله الرَّغَبُوت والرَّهَبُوت والجَبَروت.
وقرأ أبو السّمّال العَدَوِيّ {مَلْكوت} بإسكان اللام.
ولا يجوز عند سيبويه حذف الفتحة لخفّتها، ولعلها لغة.
و{نُرِي} بمعنى أرينا؛ فهو بمعنى المُضِيّ.
فقيل: أراد به ما في السموات من عبادة الملائكة والعجائب وما في الأرض من عصيان بني آدم؛ فكان يدعو على مَن يراه يَعصي فيُهلِكه الله، فأوحى الله إليه يا إبراهيم أمسك عن عبادي، أما علمت أن من أسمائي الصَّبور.
روى معناه عليّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقيل: كشف الله له عن السموات والأرض حتى العرش وأسفل الأرَضين.
وروى ابن جُريج عن القاسم عن إبراهيم النَّخَعِيّ قال: فُرجت له السموات السبع فنظر إليهنّ حتى انتهى إلى العرش، وفُرجت له الأرَضون فنظر إليهنّ، ورأى مكانه في الجنة؛ فذلك قوله: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدنيا} [العنكبوت: 27]؛ عن السُّدِّي.
وقال الضحّاك: أراه من ملَكوت السماء ما قصّه من الكواكب، ومِن ملكوت الأرض البحارَ والجبالَ والأشجارَ، ونحو ذلك مما استدلّ به.
وقال بنحوه ابن عباس.
وقال: جُعل حين وُلد في سَرَب وجُعل رزقه في أطراف أصابعه فكان يَمَصُّها، وكان نُمْرُود اللّعين رأى رؤيا فعبّرت له أنه يذهب ملكه على يدَيْ مولود يُولد؛ فأمر بعزل الرجال عن النساء.
وقيل: أمر بقتل كل مولود ذَكَر.
وكان آزر من المقربين عند الملك نُمْرود فأرسله يومًا في بعض حوائجه فواقع امرأته فحملت بإبراهيم.
وقيل: بل واقعها في بيت الأصنام فحملت وخرّت الأصنام على وجوهها حينئذ؛ فحملها إلى بعض الشِّعاب حتى ولدت إبراهيم، وحفر لإبراهيم سَرَبًا في الأرض ووَضع على بابه صخرة لئلا تفترسه السباع؛ وكانت أُمُّه تختلف إليه فتُرضعه، وكانت تجده يمصّ أصابعه، من أحدها عسلٌ ومن الآخر ماءٌ ومن الآخر لبنٌ، وشَبّ فكان على سَنة مثلَ ابن ثلاث سنين.
فلما أخرجه من السَّرَب توهّمه الناس أنه وُلد منذ سنين؛ فقال لأمّه: مَن ربّي؟ فقالت أنا.
فقال: ومن ربّك؟ قالت أبوك.
قال: ومَن ربّه؟ قالت نُمروذ.
قال: ومَن ربه؟ فلطَمَته، وعلمت أنه الذي يَذهب مُلْكُهم على يديه.
والقصَص في هذا تامٌّ في قِصص الأنبياء للكسائي، وهو كتاب مما يُقْتَدَى به.
وقال بعضهم: كان مولده بحرّان ولكن أبوه نقله إلى أرض بابل.
وقال عامّة السَّلَف من أهل العلم: وُلد إبراهيم في زمن النّمروذ ابن كنعان بن سنجاريب بن كوش بن سام بن نوح.
وقد مضى ذكره في البقرة.
وكان بين الطوفان وبين مولد إبراهيم ألف ومائتا سنة وثلاث وستون سنة؛ وذلك بعد خلق آدم بثلاث آلاف سنة وثلاثمائة سنة وثلاثين سنة. اهـ.

.قال الخازن:

قوله عز وجل: {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض} معناه وكما أرينا إبراهيم البصيرة في دينه والحق في خلاف قومه وما كانوا عليه من الضلال في عبادة الأصنام نريه ملكوت السموات والأرض فلهذا السبب عبر عن هذه الرؤية بلفظ المستقبل في قوله وكذلك نرى إبراهيم لأنه تعالى كان أراه بعين البصيرة أن أباه وقومه على غير الحق فخالفهم فجزاه الله بأن أراه بعد ذلك ملكوت السموات والأرض فحسنت هذه العبارة لهذا المعنى.
والملكوت: الملك زيدت فيه التاء للمبالغة كالرهبوت والرغبوت، والحرموت من الرهبة والرغبة والرحمة.
قال ابن عباس: يعني خلق السموات والأرض.
وقال مجاهد وسعيد بن جبير: يعني آيات السموات والأرض وذلك أنه أقيم على صخرة وكشف له عن السموات حتى رأى العرش والكرسي وما في السموات من العجائب وحتى رأى مكانه في الجنة فذلك قوله: {وآتيناه أجره في الدنيا} يعني أريناه مكانه في الجنة وكشف له عن الأرض حتى نظر إلى أسفل الأرضين ورأى ما فيها من العجائب.
قال البغوي: وروي عن سليمان ورفعه بعضهم عن علي قال: لما رأى إبراهيم ملكوت السموات والأرض أبصر رجلًا على فاحشة فدعا عليه فهلك ثم أبصر آخر فدعا عليه فهلك ثم أبصر آخر فأراد أن يدعو عليه فقال له تبارك وتعالى: «يا إبراهيم أنت رجل مجاب الدعوة فلا تدعون على عبادي فإنما أنا من عبدي على ثلاث خلال: إما أن يتوب إلي فأتوب عليه وإما أن أخرج منه نسمة تعبدني وإما أن يبعث إلي فإن شئت عفوت وإن شئت عاقبت» وفي رواية، وإن تولى فإن جهنم من ورائه، قال قتادة: ملكوت السموات الشمس والقمر والنجوم وملكوت الأرض الجبال والشجر والبحار، واختلف في هذه الرؤية هل كانت بعين البصر أو بعين البصيرة على قولين: أحدهما إنها كانت بين البصر الظاهر فشق لإبراهيم السموات حتى رأى العرش وشق له الأرض حتى رأى ما في بطنها.
والقول الثاني: إن هذه الرؤية كانت بعين البصيرة لأن ملكوت السموات والأرض عبارة عن الملك وذلك لا يعرف إلا بالعقل فبان بهذا أن هذه الرؤية كان بعين البصيرة، إلا أن يقال: المراد بملكوت السموات والأرض نفس السموات والأرض. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض}.
هذه جملة اعتراض بين قوله: {وإذ قال إبراهيم} منكرًا على أبيه عبادة الأصنام وبين جملة الاستدلال عليهم بإفراد المعبود، وكونه لا يشبه المخلوقين وهي قوله: {فلما جنّ عليه الليل} و{نري} بمعنى أريناه وهي حكاية حال وهي متعدية إلى اثنين، فالظاهر أنها بصرية.
قال ابن عطية وإما من أرى التي بمعنى عرف انتهى، ويحتاج كون رأي بمعنى عرف ثم تعدّى بالهمزة إلى مفعولين إلى نقل ذلك عن العرب والذي نقل النحويون إن رأى إذا كانت بصرية تعدّت إلى مفعول واحد وإذا كانت بمعنى علم الناصبة لمفعولين تعدت إلى مفعولين، وعلى كونها بصرية فقال سلمان الفارسي وابن جبير ومجاهد: فرجت له السموات والأرض فرأى ببصره الملكوت الأعلى والملكوت الأسفل ورأى مقامه في الجنة، قال ابن عطية: فإن صح هذا النقل ففيه تخصيص لابراهيم بما لم يدركه غيره قبله ولا بعده؛ انتهى.
وروي عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كشف الله له عن السموات والأرض حتى العرش وأسفل الأرضين وإذا كانت أبصارًا فليس المعنى مجرد الإبصار ولكن وقع له معها من الاعتبار والعلم ما لم يقع لأحد من أهل زمانه الذين بعث إليهم، قاله ابن عباس وغيره.
وفي ذلك تخصيص له على جهة التقييد بأهل زمانه وكونها من رؤية القلب، وجوز ابن عطية ولم يذكر الزمخشري غيره، قال ابن عطية: رأى بها ملكوت السموات والأرض بفكرته ونظره وذلك لابد متركب على ما تقدّم من رؤيته ببصره وإدراكه في الجملة بحواسه، وقال الزمخشري: ومثل ذلك التعريف والتبصير نعرّف ابراهيم ونبصره ملكوت السموات والأرض يعني الربوبية والإلهية ونوقفه لمعرفتهما ونرشده بما شرحنا صدره وسدّدنا نظره لطريق الاستدلال و{نري} حكاية حال ماضية انتهى، والإشارة بذلك إلى الهداية أو ومثل هدايته إلى توحيد الله تعالى ودعاء أبيه وقومه إلى عبادة الله تعالى ورفض الأصنام أشهدناه ملكوت السموات والأرض، وحكى المهدوي أن المعنى وكما هديناك يا محمد أرينا ابراهيم وهذا بعيد من دلالة اللفظ ويجوز أن تكون الكاف للتعليل أي وكذلك الإنكار والدعاء إلى الله زمان ادعاء غير الله الربوبية أشهدناه ملكوت السموات والأرض فصار له بذلك اختصاص، قال ابن عباس: جلائل الأمور سرها وعلانيتها، فلم يخف عليه شيء من أعمال الخلائق فلما رأى ذلك جعل يلعن أصحاب الذنوب قال الله: إنك لا تستطيع هذا فرده لا يرى أعمالهم انتهى، قال الزجاج وغيره: الملكوت الملك كالرغبوت والرهبوت والجبروت وهو بناء مبالغة ومن كلامهم: له ملكوت اليمن والعراق، قال مجاهد: ويعني به آيات السموات والأرض، وقال قتادة: ملكوت السموات: الشمس والقمر والنجوم وملكوت الأرض: الجبال والشجر والبحار، وقيل: عبادة الملائكة وعصيان بني آدم، وقرأ أبو السمال: ملكوت بسكون اللام وهي لغة بمعنى الملك، وقرأ عكرمة ملكوت بالثاء المثلثة وقال: ملكوثا باليونانية أو القبطية، وقال النخعي: هي ملكوثا بالعبرانية وقرئ وكذلك تري، بالتاء من فوق، {إبراهيم ملكوت}، برفع التاء، أي تبصره دلائل الربوبية. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَكَذَلِكَ نُرِى إبراهيم} هذه الإراءةُ من الرؤية البصَريةِ المستعارةِ للمعرفة ونظرِ البصيرة، أي عرّفناه وبصَّرناه، وصيغةُ الاستقبال حكايةٌ للحال الماضيةِ لاستحضار صورتِها، وذلك إشارةٌ إلى مصدرِ {نُري} لا إلى إراءةٍ أخرى مفهومةٍ من قوله: {إني أراك} وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلوِّ درجة المشارِ إليه وبُعدِ منزلتِه في الفضل وكمال تمييزِه بذلك وانتظامِه بسببه في سلك الأمور المشاهَدة، والكافُ لتأكيدِ ما أفاده اسمُ الإشارة من الفخامة، ومحلُها في الأصل النصبُ على أنه نعتٌ لمصدر محذوف وأصل التقدير نُري إبراهيم إراءةً كائنة مثلَ تلك الإراءة فقُدّم على الفعل لإفادة القصر، واعتبرت الكافُ مقحمةً للنكتة المذكورة فصار المشارُ إليه نفسَ المؤكد لا نعتًا له أي ذلك التبصيرَ البديعَ نبصِّره عليه السلام {مَلَكُوتَ السموات والأرض} أي ربوبيته تعالى ومالكيته لهما وسلطانَه القاهرَ عليهما وكونَهما بما فيهما مربوبًا ومملوكًا له تعالى لا تبصيرًا آخَرَ أدنى منه، والملكوتُ مصدرٌ على زنة المبالغة كالرَهَبوت والجَبَروت، ومعناه الملكُ العظيمُ والساطان القاهرُ، ثم هل هو مختصٌّ بمُلك الله عزَّ سلطانه أو لا فقد قيل، وقيل: والأول هو الأظهر، وبه قال الراغب، وقيل: ملكوتهما عجائبُهما وبدائعهما، روي أنه كُشف له عليه السلام عن السموات والأرض حتى العرشُ وأسفلُ الأرضين، وقيل: آياتُهما.
وقيل: ملكوتُ السموات: الشمسُ والقمرُ والنجومُ، وملكوتُ الأرض الجبالُ والأشجار والبحارُ. وهذه الأقوالُ لا تقتضي أن تكون الإراءَةُ بصَريةً إذ ليس المرادُ بإراءةِ ما ذُكر من الأمور الحسية مجردَ تمكينِه عليه السلام من إبصارها ومشاهدتها في أنفسها بل اطلاعَه على حقائقها وتعريفَها من حيثُ دلالتُها على شؤونه عز وجل، ولا ريبَ في أن ذلك ليس مما يُدرَك حِسّيًا كما ينبئ عنه اسمُ الإشارة المُفصِحُ عن كون المشار إليه أمرًا بديعًا، فإن الإراءة البصَرية المعتادةَ بمعزلٍ من تلك المثابة، وقرئ {تُري} بالتاء وإسنادُ الفعل إلى الملكوت أي تُبصِره عليه السلام دلائل الربوبية. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَكَذَلِكَ نُرِى إبراهيم} هذه الإراءة من الرؤية البصرية المستعارة استعارة لغوية للمعرفة من إطلاق السبب على المسبب أي عرفناه وبصرناه، وكان الظاهر أرينا بصيغة الماضي إلا أنه عدل إلى صيغة المستقبل حكاية للحال الماضية استحضارًا لصورتها حتى كأنها حاضرة مشاهدة، وقيل: إن التعبير بالمستقبل لأن متعلق الإراءة لا يتناهى وجه دلالته فلا يمكن الوقوف على ذلك إلا بالتدريج وليس بشيء.